فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

إن الله تعالى ذكر هاهنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق:
فبدأ أولًا بقوله: {خَلَقَكُمْ}.
وثانيًا: بالآباء والأمهات، وهو قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ}.
وثالثًا: بكون الأرض فراشًا.
ورابعًا: بكون السماء بناء.
وخامسًا: بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض، وهو قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} ولهذا الترتيب أسباب:
الأول: أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر.
فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان، ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض، لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء، وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر، فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء.
الثاني: هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم، وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع.
الثالث: أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما؟ لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل، وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى.
فلما كانت وجوه الدلائل له هاهنا أتم كان أولى بالتقديم، واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع. اهـ.

.قال السمرقندي:

يقال: كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه: فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على وجود الصانع واستقامتها تدل على توحيده، وهو استقامة الليل والنهار، والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته، لأن المدبر لو كان اثنين لم يكن على الاستقامة، كما قال في آية أخرى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناسًا مختلفة، وتمام الأشياء يدل على أن خالقها واحد قائم قادر. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر هاهنا أنه جعل الأرض فراشًا، ونظيره قوله: {أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا} [النمل: 61] وقوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا} [الزخرف: 10] واعلم أن كون الأرض فراشًا مشروط بأمور:
الشرط الأول: كونها ساكنة، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالإستقامة أو بالاستدارة، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشًا لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية، وذلك الإنسان هاوٍ، والأرض أثقل من الإنسان، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأَبطأ لا يلحق الأسرع فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشًا، أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها؛ لأن حركة الأرض مثلًا إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة، ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه:
أحدها: أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل، وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام.
وثانيها: الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل وذلك السطح موضوع على الماء والهواء، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء، وإن جمعت رسبت وهذا باطل لوجهين:
الأول: أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض.
والثاني: لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطًا حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدبًا؟
وثالثها: الذين قالوا سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط وهذا باطل لوجهين:
الأول: أن الأصغر أسرع انجذابًا من الأكبر، فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك.
الثاني: الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود.
ورابعها: قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة، فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب.
وهذا أيضًا باطل من وجوه خمسة.
الأول: الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا؟ الثاني: ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها.
الثالث: ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق.
الرابع: يجب أن يكون الثقيل كلما كان أعظم أن تكون حركته أبطأ، لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر، أبطأ من اندفاع الأصغر.
الخامس: يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء، لأنه عند الابتداء، أبعد من الفلك.
وخامسها: أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك، وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن الأجسام متساوية في الجسمية، فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لابد وأن يكون جائزًا، فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار.
وسادسها: قال أبو هاشم: النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف.
والسؤال عليه: أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار.
فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى.
وعند هذا نقول: انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد، على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية، وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لابد من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
الشرط الثاني: في كون الأرض فراشًا لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن، وأيضًا فلو كانت الأرض من الذهب مثلًا لتعذرت الزراعة عليها، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد؛ وأن لا تكون في غاية اللين، كالماء الذي تغوص فيه الرجل: الشرط الثالث: أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس، فكان يبرد جدًا فجعل الله كونه أغبر، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشًا للحيوانات.
الشرط الرابع: أن تكون بارزة من الماء، لأن طبع الأرض أن يكون غائصًا في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشًا لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشًا لنا، ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشًا أن لا تكون كرة، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة، وهذا بعيد جدًا، لأن الكرة إذا عظمت جدًا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يزيده تقريرًا أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها، فهذا أولى والله أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا} وهو في محل النصب على أنه صفة ثانيةٌ لربكم، موضحة أو مادحة، أو على تقدير أخُص أو أمدَح، أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ، قال ابن مالك: التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعارًا بأنه إنشاء كما في المنادى، وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد، وأما كونُه مبتدًا خبرُه فلا تجعلوا كما قيل، فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي ما في حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأنًا، وجعل بمعنى صيّر، والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: هي بمعنى خلق، وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين، وتقديمُه على المفعول الصريح لتعجيل المسَرَّة ببيان كون ما يعقُبه من منافع المخاطبين، وللتشويق إليه، لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند الإشعار بمنفعته تبقى مترقبةً له، فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن، أو لما في المؤخَّر وما عطف عليه من نوع طول. فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم، ومعنى جعلها فراشًا جعل بعضَها بارزًا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ، وجعلها متوسطةً بين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحًا حقيقيًا، فإن كرويةَ شكلِها مع عظم جِرْمها مصححٌ لافتراشها. اهـ.

.قال الألوسي:

{الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاء} الموصول إما منصوب على أنه نعت {رَبُّكُمْ} [البقرة: 1 2] أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول {تَتَّقُونَ} [البقرة: 12] كما قاله أبو البقاء إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضًا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة {فَلاَ تَجْعَلُواْ} والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} إلى قوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروح: 0 1] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرًا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من يخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره {رِزْقًا لَّكُمْ} بتقدير يرزق، و{جَعَلَ} بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: بمعنى أوجد وانتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فراشًا أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزًا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطًا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه، وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فراشًا لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى.
وعبر سبحانه هنا بجعل وفيما تقدم بخلق لاختلاف المقام أو تفننًا في التعبير كما في قوله تعالى: {خُلِقَ السموات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لاسيما بعد الاشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبني بيتًا كان أو قبة أو خباء أو طرافًا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافًا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدًا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي {بساطًا} وطلحة {مهادًا} وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام {جعل} في لام {لكم}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ}.
يتعين أن قوله: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله: {الذي خلقكم} [البقرة: 21]، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله: {والسماء بناء} وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.
والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.
ومعنى جعل الأرض فراشًا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار.
والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.
وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعًا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم: بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتًا يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء (32): {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا}.
فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم: أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله: {لكم} فهل نخص تعلقه بفعل {جعل} المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف، أو بجعله متعلقًا بقوله: {فراشًا} فيكون قوله: {والسماء بناء} معطوفًا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق.
قلت: هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله: {لكم} تحكمًا لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل {لكم} متعلقًا بفعل {جعل} ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
وحذف {لكم} عند ذكر السماء إيجازًا لأن ذكره في قوله: {الذي جعل لكم الأرض} دليل عليه.
و{جعل} إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض الجيولوجيا تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى: {أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما} إلى قوله: {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء: 30 32].
وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر.
وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله: {وأنزل من السماء ماء} إلخ.
وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به. اهـ.